الموسيقى والغناء في حياة الصحابة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الموسيقى والغناء في حياة الصحابة
الموسيقى والغناء في حياة الصحابة
وردت آثار صحيحة عن أصحاب النبي “ص” في ذم الغناء والمعازف، وأخرى صحيحة أيضا في الترخيص في ذلك، ولا ريب أن لكل من الصورتين محملا صحيحا، وهذا بيانها:
ما ورد من الأثر عنهم في ذم الغناء والمعازف :
ا- عن عثمان بن عفان “ر” قال:
لقد اختبأت عند ربي عشرا: إني لرابع أربعة في الإسلام، ولا تغنيت، ولا تمنيت.. الحديث.
قلت: هذا الترك من ذي النورين للتغني مناسب للأحوال الكاملة، والغناء لهو، وتركه وإن كان مباحا افضل من فعله، فأخذ عثمان بأقضل الخصلتين، لا تتجاوز دلالة الأثر أكثر من ذلك.
2- وعن ابن مسعود “ر"، في تفسير قوله تعالى: (و من الناس من يشتري لهو الحديث..)، قال: الغناء.
وكذلك عن ابن عباس بمثله.
و ق ناقشناه من قبل، ووضحنا أنه ليس في الغناء المباح في مفرداته، ولا المباح في الهدف من استعماله، وإنما الآية في كل لهو حديث، ومنه الغناء، يشترى للإضلال به عن سبيل الله والصد عن الدين.
3- وعن ابن مسعود ، قال: إذا ركب الرجل الدابة فلم يذكر اسم الله ردفه الشيطان، فقال له: تغن، فإن لم يحسن قال له: تمن.
وهذا غايته أن يكون الغناء والأماني مما يشغل به الشيطان الغافل عن ذكر الله، وليس فيه أن الغناء والأماني مما يحرم، وما من إتسان يخلو من تمن، لا يحرم ذلك أحد، وإنما الأماني سراب وعجز، والعاقل من أبدلها بفكر نافع وكسب صالح ، والغناء يكون بالشعر غالبا، والشعر سراب وتية، إلا ما كان حكمة أو علما أو ذكرا، كما استثنى الله تعالى شعر المؤمنين الصالحين الذاكرين الله والمنافحين عن دينه، والسراب لا شيء، وشغل النفس بما لا يتفع صد لها عن الخير بقدره، وما كان على هذا الوصف فهو معدود في الباطل، وذلك مما يتذرع به الشيطان لمكروه أو حرام، كما تقدم بيان وجهه في الكلام على إضافة الغناء أو المزامير إلى الشيطان في بعض الأحاديث مع الإذن فيه.
4- وعن ابن عباس، في قوله تعالى: (وأنتم سامدون)،
قال: هو الغناء بالحميرية، اسمدي لنا: تغني لنا.
قلت: فهذا أيضا تقدم بيان وجهه، وأنه ليس في الغناء الذي بينا إباحته، إنما هو الغناء الذي كانوا يقابلون به ما يتلى عليهم من آيات الله، صادين به عنها.
5- وعن ابن عباس ، أيضا، قال:
الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام.
قلت: هذا النص- لو صح- صريح من ابن عباس في تحريم المعازف مطلقا، وبتحديد بعض أنواعها المشهورة يومئذ، كالدف وا لمزمار. ومن الناس من يقول: هذا لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الحديث المرفوع إلى النبي “ص”.
وأقول: هذا قول لا يسلمه التأصيل الصحيح، بل مثله يقال من قبل الرأي والاجتهاد، وابن عباس من أهله، وله آراؤه ونظره في المسائل الكثيرة، وباب الحلال والحرام يتسع فيه الاجتهاد من أهله. فاذا كان هذا رأيا لابن عباس، فان الراجح في مذهب الصحابي عدم الحجية، إلا إذا وقع عليه الاتفاق، وهو غير حاصل هنا، وعلى خلاف موارد الأدلة التي شرحناها، فالنصوص تواترت بإباحة الدف في أحوال أو مطلقا، وابن عباس يطلق التحريم، ولم يرد في خبر واحد صحيح ما يوافق هذا الإطلاق منه، كما صح الخبر بإباحة المزمار، وابن عباس يطلق التحريم، والنص مقدم على ما سواه. ثم إن الجميع مقر بإباحة الدف كسائر المعازف عند طائفة، وهو الذي رجحناه، ودونها عند كثيرين، وفي حالات خاصة عند طائفة، بينما ابن عباس حكم بحرمته بعموم، وما نعرف من سلك هذا المسلك.
فإن قيل: استثنينا الدف بأدلته.
قلنا: إنما يصح ذلك في دليلين تكافآ، وليس ذلك حاصلا بين مستفاد بنصه عن رسول الله “ص"، ومستفاد من اجتهاد الصحابي.
على أننا بينا أن الدف معزف كسائر المعازف، وأن إباحته من حيث الأصل وسائر الآلات هي الصواب، دون تفريق بين آلة وأخرى، لفقد الدليل المفرق.
لكن إذا أمكن أن نحمل رأي الصحابي مع ما يتفق مع النص فذلك أولى من حمله على مخالفته، وعليه، فالوجه فيما قال ابن عباس ، فيما أرى، متنزل على حال اتخاذ هذه الآلات لمعصية الله، كما تقدم توجيه حديث الاستحلال عليه في الفصل الأول، لا مطلقا.
واعلم أن هذا الذي ذكرت حول رأي ابن عباس هنا مفروض جميعه لوثبت الخبر عته، إذ فيه نظر.
6- وعن عبدالله بن عمر،: أنه مر عليه قوم محرمون، وفيهم رجل يتغنى، فقال: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم. وعته أيضا: أنه مر بجارية صغيرة تغني، فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه.
قلت: وهذا لا يزيد على أن يكون ابن عمر كان يكره الغناء، وسيأتي عنه بعض الأثر المفيد الترخص فيه.
ما ورد عن الصحابة في اباحة الغناء والمعازف:
وأما الآثار عن الصحابة، في الترخص في ذلك والتسهل فيه، فكثيرة، منها:
ا- عن وهب بن كيسان، قال: قال عبد الله بن الزبير، وكان متكئا: تغنى بلال، قال: فقال له رجل: تغني؟ فاستوى جالسا، ثم قال: وأي رجل من المهاجرين لم أسمعه يتغنى النصب؟!
وفي لفظ: ما أعلم رجلا من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225)، و عبد الرازق في “المصنف"(11/5-6) ، و الفاكهي (3/27 رقم:1735) بإسناد صحيح)
قلت: وهذا يحكي زمانا شاملا بعمومه زمن الصحابة والنبي “ص” بين أظهرهم وبعده، فمثله له حكم الحديث المرفوع، وفيه أن المهاجرين لم يكونوا يرون حرجا في غنائهم الشعبي يومئذ والذي يسفونه (النصب)، شبيه بما درج عليه الناس من الأغاني الشعبية التي يرددونها في زماننا في مناسبة وغيرها.
2- وعن السائب بن يزيد، قال: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج، ونحن نؤم مكة، اعتزل عبد الرحمن الطريق، ثم قال لرباح بن المغترف: غننا يا أبا حسان، وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيه أدركهم عمر بن الخطاب، في خلافته، فقال : ما هذا؟ فقال عبدالرحمن: ما بأس بهذا، نلهو ونقصر عنا، فقال عمر، : فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب، وضرار رجل من بني محارب بن فهر.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/224) و ابن عساكر في “تاريخه” (24/400) بإسناد صحيح)
وروى عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، قال:
خرجنا مع عمر بن الخطاب في الحج الأكبر، حتى إذا كنا بالروحاء ، كلم القوم رباح بن المغترف، وكان حسن الصوت بغناء العرب ، فقالوا: أسمعنا يا رباح، وقصر عنا المسير، قال: إني أفرق من عمر، فكلم القوم عمر، فقالوا: إنا كلمنا رباحا يسمعنا وبقصر عنا المسير، فأبى إلا أن تأذن له، فقال: يا رباح، أسمعهم، وقصر عنهم المسير، فإذا أسحرت (بلغت وقت السحر) فارفع. قال: وحدا لهم من شعر ضرار بن الخطاب، فرفع عقيرته يتغنى وهم محرمون.
(أثر حسن أخرجه الخطابي في “غريب الحديث"(1/658))
قلت: فتأمل ما في هذين الأثرين من سماحة المهاجرين الأولين، وفيهم عمر بن الخطاب على ما هو معروف عنه من شدته في الحق، وهم محرمون، يغنيهم رجل منهم يحسن الغناء بشعر من شعر العرب قبل الإسلام، يؤنسهم بذلك، ويذهب عنهم وحشة الطريق، وثقل السفر.
وهذا أولى وأحسن مما تقدم عن ابن عمر في إنكار غناء القوم المحرمين، إلا أن يحمل على أنه سمع منهم غناء منكرا في لفظه، أو سمعهم يغنون في محل ينبغي فيه الاشتغال بالعبادة، لا باللهو.
3- وعن عبد الله بن عباس : أنه بينما هو يسير مع عمر، في طريق مكة في خلافته، ومعه المهاجرون والأنصار، فترنم عمر ببييت، فقال له رجل من أهل العراق ليس معه عراقي غيره: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين، فاستحيا عمر من ذلك، وضرب راحلته حتى انقطعت عن الركب .
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (5/69) بإسناد صحيح)
4- وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب، قال: سمع عمر رجلا يتغنى بفلاة من الأرض (وفى رواية: وهو يحدو بغناء الركبان)، فقال: الغناء من زاد الراكب.
(أثر حسن أخرجه البيهقي (10/68) بإسناد حسن)
5- وعن محمد بن عبد الله بن نوفل: انه رأى أسامة بن زيد في مسجد الرسول “ص” مضطجعا، رافعا إحدى رجليه على الأخرى، يتغنى النصب .
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225) و ابن عبد البر في “التمهيد” (22/197) و إسناده صحيح)
6- وعن عبد الله بن عتبة، أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى، قال عبد الله: ولا والله، ما رأيت رجلا قط ممن رأيت وأدركت، أراه قال: كان أخشى لله من عبد الله بن الأرقم.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225) بإسناد صحيح)
قلت: وجميع هذه الآثار في الغناء الشعبي الدارج في أعراف الناس يومئذ، يخففون به ويدفعون السآمة عن أنفسهم، يغنيه أحدهم وحده، أو يسمعه منه غيره، لم يكونوا يجدون فيه حرجا.
نعم، هذا جميعه في الغناء دون آلة.
7- وتقدم ذكر الرواية عن أبي مسعود عقبة بن عمرو وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وشهودهم الغناء والضرب بالدف في عرس. وكذلك ما في رواية صحيحة عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري من اجتماعه مع نفر من الصحابة على السماع من قينة تغنيهم.
(الروايتان جزء من حديث صحيح أخرجه النسائي و الطبراني و الحاكم و غيرهم)
8- وعن عروة بن الزبير:
أن إتسانا عمل مأدبة في زمان عثمان، فدعا لها أصحاب رسول الله “ص"، وفيهم حسان بن ثابت، وقد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، قال: فجعل حسان يقول لابنه عبد الرحمن إذا أتي بطعام: أطعام يد، أم طعام يدين؟ قال: فإذا قال له: طعام يدين، لم يأكل، وهو الشواء.
قال عروة: وكان في المأدبة قينتان تغنيانهم، وجعل عبد الرحمن بن حسان يشير إليهما تغنيانهم شعر حسان، فغنتا بقوله:
انظر نهارا بباب جلق هل * تؤنس دون البلقاء من أحد؟
قال: فبكى حسان، وجعل ابنه يشير إليهما تغنيان بشعره أيضا، فيبكي.
(أثر حسن، أخرجه الزبير بن بكار في “الأخبار الموفقيات” ص:250.. و إسناده حسن)
وروى هذه القصة أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، فقال:
قلت لخارجة بن زيد : هل كان الغناء في العرسات؟ قال: قد كان ذاك، ولا يحضر بما يحضر به اليوم من السفه، دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم، فشهد المدعاة: حسان بن ثابت، وابنه عبد الرحمن، وإذا جاريتان تغنيان…
وفي رواية مفسرة بأكثر من هذا، وفيها دلائل، قال عبد الله بن ذكوان:
ذكر عند خارجة بن زيد بن ثابت الغناء يوما، فقال: والله إن كان لظاهرا كثيرا في كل مأدبة، ولكنه يؤمئذ لم يكن يحضر فيما يحضر اليوم من سوء الدعة وسوء الحال.
قال خارجة: فلقد رأيتنا في مأدبة دعينا لها في آل نبيط، وحسان بن ثابت بيني وبينه عبد الرحمن (يعني ابن حسان)، وذلك بعدما أصيب بصره، فقدم الطعام، فلم يقدم طعام إلا قال حسان: أطعام يد يا بني أم طعام يدين؟ فيقول: طعام يد، وما أشبهه، حتى أتي بالشواء، فقال ابن حسان: يا أبتاه، طعام يدين، فلم يذقه، ثم رفع الطعام، وأخرجوا قينتين، فغنتا بشعر حسان، لا أعلم إلا قال: حرتين، وقالتا فيما تقولان:
انظر نهارا بباب جلق هل * تؤنس دون البلقاء من أحد
فجعل يبكي ويقول: لقد رآني هنالك سميعا بصيرا، فلما سكتتا همد عنه البكاء، فيشير إليهما عبد الرحمن: غنيا، فإذا غنيا هاجتا عليه البكاء، قال خارجة: فعجبت لعمر الله، ماذا يعجبه أن يبكي أباه!.
قلت: وفي هذه القصة الغناء من مغنيتين مجيدتين للغناء، تغنيان الجمع من الرجال من الصحابة والتابعين في مناسبة ، لا ينكر ذلك أحد منهم.
9- وعن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، قال:
وفد عبدالله بن جعفر على معاوية بن أبي سفيان، فأنزله في داره، فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء، قال: فإذا كان ذلك فأعلميني، فاعلمته، فاطلع عليه، فإذا جارية له تغنيه، وهي تقول:
إنك والله لذو ملة (ذو ملل) * يطرفك الأدنى عن الأبعد (أي تستطرف الجديد و تنسى القديم)
وهو يقول: يا صدقكاه! قال: ثم قال: اسقيني، قالت: ما أسقيك؟ قال: ماء وعسلا، قال: فاتصرف معاوية وهو يقول: ما أرى بأسا، فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القران، قال: هكذا قومي، رهبان بالليل، ملوك بالنهار .
(أثر لا بأس به.. أخرجه المعافى بن زكريا النهرواني في “الجليس الصالح” (3/272-237) ، ومن طريقه: ابن عساكر في “تاريخه “ (27/263).
وإسناده صالح، رجاله ثقات سوى راويين فهما مستوران، وباب الآثار يغتفر
فيه ما لا يغتفر في الحديث، لأنها لا تعدو أن تعد شواهد، وروايات المستورين
صالحة للاستشهاد.)
وشأن عبدالله بن جعفر في السماع للغناء والمعازف واتخاذ ذلك مشهور ثابت، ومن ذلك غير ما تقدم مما يضم إليه أيضا مذهب عبدالله بن عمر بن الخطاب في الترخيص:
ما حدث به محمد بن سيرين: أن رجلا قدم المدينة بجوار، (فنزل على ابن عمر، وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه، فلم يهو منهن شيا، قال: اتطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا)، فأتى إلى عبد الله بن جعفر، فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن (فقال: خذي)، فأخذت (في رواية : بالدف، وفى أخرى: بالعود)، حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، فساومه، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر، فقال: يا أبا عبدالرحمن، إني غبنت بسبع مئة درهم، فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبع مئة درهم ، فإما أن تعطيها أياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيها أياه.
(أخرجها ابن حزم في “المحلى” (9/62-63))
قلت: وقد قال بعض المتأخرين: أين يكون عبدالله بن جعفر من كبار فقهاء الصحابة، كعبد الله بن عمر وفلان وفلان؟ وأقول: هذا مذهب ابن عمر بين، وقصته في حديث زمارة الراعي تشهد لهذا أيضأ.
على أن عبد الله بن جعفير وإن لم يكن في الكبار المذكورين من فقهاء الصحابة، ولكنه كان محمود السيرة كبير المكانة في وقت كان فقهاء الصحابة متوافرين، يعرفون له قدره ومنزلته، وشأنه في الغناء والموسيقى واتخاذ المغنيات مشهور مذكور، وما أنكر عليه أولئك الفقهاء شيا من ذلك، ولم يكن مثله في المحل الذي يخشاه بسببه مثل عبدالله بن عمر وأبي هريرة وعائشة أم المؤمنين وجابر بن عبدالله، وأمثالهم من الصحابة بالمدينة.
ويكفيه تزكية في الجملة مدح رسول الله “ص” ودعاؤه له، حيث ذكر عبد الله بن جعفر في قصة مجيء النبى “ص” لآل جعفر بن أبي طالب بعد مرور ثلاث ليالى على استشهاده، عن النبي “ص” قال:” ادع لي ابني أخي"، قال: فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: “ادعوا لي الحلاق"، فجيء بالحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قال:” أما محمد، فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي"، ثم أخذ بيدي فأشالها، فقال:"اللهم اخلص جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه “ قالها ثلاث مرات (حديث صحيح أخرجه أحمد.. رقم 1750).
وفي قصته مع ابن عمر، إباحة ابن عمر بيع الجارية المغنية، مع اعتبار إجادتها للغناء في القيمة، وهذا أحسن وأولى بالاتباع من قول من جاء بعد من الفقهاء، كما سيأتي في موضعه.
10- وعن أم علقمة مولاة عائشة:
أن بنات أخي عائشة “ر” خفضن ، فألمن ذلك، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت: فأرسل إلى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة “ر” في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة “ر”: أف، شيطان، أخرجوه، أخرجوه، فأخرجوه.
فهذا الخبر شاهد لشهرة الغناء في المدينة في زمان أم المؤمنين عائشة، وكان له من يتعاطاه حرفة من الرجال، على ما هو ظاهر الخبر، وهنا أتي بالمغني ليغني حيث النساء والجواري، وفي مناسبة ختان، وكل ذلك تقره عائشة، وإنما انكرت ما رأته عليه من الحال والهية.
11- وعن خالد بن ذكوان، قال: كنا بالمدينة يوم عاشوارء، والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ ، فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل علي رسول الله “ص” صبيحة عرسي، وعندي جاريتان تتغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر، وتقولان فيما تقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: “أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله “ .
(أخرجه ابن ماجة (رقم :1897) و إسناده صحيح)
وهذا فيه إظهار الصوت بالعزف والغناء في يؤم عاشوراء، وكان يوما يفرح فيه المسلمون، وليس بفطر ولا أضحى ولا عرس ، وحين ذكر ذلك الصنيع للربيع استدلت له بالإذن النبوي بمثله في عرسها، ففهمت من ذلك الإذن الفسحة في كل مناسبة دون قصر على سبب ورود القول النبوي، وهو العرس.
كما أن ظاهر القصة سماع الرجال للغناء من الجواري.
12- وسئل الحسن البصري عن الحداء؟ فقال: كان المسلمون يفعلونه .
(أخرجه ابن أبي شيبة (4/263-القسم المستدرك) و إسناده لا بأس به)
قلت: ومثل الحسن إذا قال: (كانوا) فإنما يعني أصحاب النبي “ص"، والحداء غناء.
فهذه الآثار الثابتة صريحة في ترخص خير الناس بعد رسول الله “ص” في الغناء، وهي مع ما يظن معارضته لها، جميعه متوافق غير متعارض، وذلك على التأويل المناسب لما تقدم من النصوص الصحيحة.
وأصحاب النبي “ص” مثل الأمة الأعلى في الاقتداء بعد رسولها “ص"، كانوا يأخذون من اللهو ما يدفع الملل، وما يتحقق به العون على العودة إلى الجد، لم يكونوا يرون ذلك عيبا ولا متقصة، فضلا عن كونه مخالفة أو معصية.
وقد صح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، قال: لم يكن أصحاب رسول الله “ص” متحرفين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
(أثر صحيح .. أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في “زوائد كتاب الزهد"(ص: 215) و إسناده صحيح)
وعن بكر بن عبدالله المزني، قال: كان أصحاب رسول الله “ص” يتبادحون (يترامون) بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال .
(أثر صحيح. أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” رقم 266)
قلت: أي يأخذون من اللهو، ويتسلون ويتمازحون، ومن ذلك اللهو بالسماع غناء وإنشادا واستماعا، ما دام ذلك مما لا يحول بينهم وبين القيام بحقوق الله.
فإذا كان هذا حال أصحاب النبي “ص” ، فحال من بعدهم دونهم في الصبر على الجد ومداومته في جميع الأحوال.
خلاصة مذاهب الصحابة:
المنقول عنهم في ذلك بالأسانيد الثابتة يدل على أنهم لم يكونوا يرون حرمة الغناء، وليس في عبارة من عباراتهم ما يدل على الحرمة لأصل الغناء غاية ما يستفاد من بعضها كراهة الغناء في وقت ينبغي فيه الاشتغال بما هو أولى.
وكذلك ليس في شيء من كلامهم تحريم الموسيقى، إلا ما جاء عن ابن عباس وحده على نظر في ثبوته، ولو صح فهو محمول على اتخاذها وسائل للمعاصي، لا مطلقا، تنزيلا لقوله على موافقة مقتضى الأدلة في هذا الباب.
وأن الإباحة المستفادة من سلوك الصحابة لا تنحصر في عرس أو عيد ، بل في الأحوال المختلفة.
وردت آثار صحيحة عن أصحاب النبي “ص” في ذم الغناء والمعازف، وأخرى صحيحة أيضا في الترخيص في ذلك، ولا ريب أن لكل من الصورتين محملا صحيحا، وهذا بيانها:
ما ورد من الأثر عنهم في ذم الغناء والمعازف :
ا- عن عثمان بن عفان “ر” قال:
لقد اختبأت عند ربي عشرا: إني لرابع أربعة في الإسلام، ولا تغنيت، ولا تمنيت.. الحديث.
قلت: هذا الترك من ذي النورين للتغني مناسب للأحوال الكاملة، والغناء لهو، وتركه وإن كان مباحا افضل من فعله، فأخذ عثمان بأقضل الخصلتين، لا تتجاوز دلالة الأثر أكثر من ذلك.
2- وعن ابن مسعود “ر"، في تفسير قوله تعالى: (و من الناس من يشتري لهو الحديث..)، قال: الغناء.
وكذلك عن ابن عباس بمثله.
و ق ناقشناه من قبل، ووضحنا أنه ليس في الغناء المباح في مفرداته، ولا المباح في الهدف من استعماله، وإنما الآية في كل لهو حديث، ومنه الغناء، يشترى للإضلال به عن سبيل الله والصد عن الدين.
3- وعن ابن مسعود ، قال: إذا ركب الرجل الدابة فلم يذكر اسم الله ردفه الشيطان، فقال له: تغن، فإن لم يحسن قال له: تمن.
وهذا غايته أن يكون الغناء والأماني مما يشغل به الشيطان الغافل عن ذكر الله، وليس فيه أن الغناء والأماني مما يحرم، وما من إتسان يخلو من تمن، لا يحرم ذلك أحد، وإنما الأماني سراب وعجز، والعاقل من أبدلها بفكر نافع وكسب صالح ، والغناء يكون بالشعر غالبا، والشعر سراب وتية، إلا ما كان حكمة أو علما أو ذكرا، كما استثنى الله تعالى شعر المؤمنين الصالحين الذاكرين الله والمنافحين عن دينه، والسراب لا شيء، وشغل النفس بما لا يتفع صد لها عن الخير بقدره، وما كان على هذا الوصف فهو معدود في الباطل، وذلك مما يتذرع به الشيطان لمكروه أو حرام، كما تقدم بيان وجهه في الكلام على إضافة الغناء أو المزامير إلى الشيطان في بعض الأحاديث مع الإذن فيه.
4- وعن ابن عباس، في قوله تعالى: (وأنتم سامدون)،
قال: هو الغناء بالحميرية، اسمدي لنا: تغني لنا.
قلت: فهذا أيضا تقدم بيان وجهه، وأنه ليس في الغناء الذي بينا إباحته، إنما هو الغناء الذي كانوا يقابلون به ما يتلى عليهم من آيات الله، صادين به عنها.
5- وعن ابن عباس ، أيضا، قال:
الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام.
قلت: هذا النص- لو صح- صريح من ابن عباس في تحريم المعازف مطلقا، وبتحديد بعض أنواعها المشهورة يومئذ، كالدف وا لمزمار. ومن الناس من يقول: هذا لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الحديث المرفوع إلى النبي “ص”.
وأقول: هذا قول لا يسلمه التأصيل الصحيح، بل مثله يقال من قبل الرأي والاجتهاد، وابن عباس من أهله، وله آراؤه ونظره في المسائل الكثيرة، وباب الحلال والحرام يتسع فيه الاجتهاد من أهله. فاذا كان هذا رأيا لابن عباس، فان الراجح في مذهب الصحابي عدم الحجية، إلا إذا وقع عليه الاتفاق، وهو غير حاصل هنا، وعلى خلاف موارد الأدلة التي شرحناها، فالنصوص تواترت بإباحة الدف في أحوال أو مطلقا، وابن عباس يطلق التحريم، ولم يرد في خبر واحد صحيح ما يوافق هذا الإطلاق منه، كما صح الخبر بإباحة المزمار، وابن عباس يطلق التحريم، والنص مقدم على ما سواه. ثم إن الجميع مقر بإباحة الدف كسائر المعازف عند طائفة، وهو الذي رجحناه، ودونها عند كثيرين، وفي حالات خاصة عند طائفة، بينما ابن عباس حكم بحرمته بعموم، وما نعرف من سلك هذا المسلك.
فإن قيل: استثنينا الدف بأدلته.
قلنا: إنما يصح ذلك في دليلين تكافآ، وليس ذلك حاصلا بين مستفاد بنصه عن رسول الله “ص"، ومستفاد من اجتهاد الصحابي.
على أننا بينا أن الدف معزف كسائر المعازف، وأن إباحته من حيث الأصل وسائر الآلات هي الصواب، دون تفريق بين آلة وأخرى، لفقد الدليل المفرق.
لكن إذا أمكن أن نحمل رأي الصحابي مع ما يتفق مع النص فذلك أولى من حمله على مخالفته، وعليه، فالوجه فيما قال ابن عباس ، فيما أرى، متنزل على حال اتخاذ هذه الآلات لمعصية الله، كما تقدم توجيه حديث الاستحلال عليه في الفصل الأول، لا مطلقا.
واعلم أن هذا الذي ذكرت حول رأي ابن عباس هنا مفروض جميعه لوثبت الخبر عته، إذ فيه نظر.
6- وعن عبدالله بن عمر،: أنه مر عليه قوم محرمون، وفيهم رجل يتغنى، فقال: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم. وعته أيضا: أنه مر بجارية صغيرة تغني، فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه.
قلت: وهذا لا يزيد على أن يكون ابن عمر كان يكره الغناء، وسيأتي عنه بعض الأثر المفيد الترخص فيه.
ما ورد عن الصحابة في اباحة الغناء والمعازف:
وأما الآثار عن الصحابة، في الترخص في ذلك والتسهل فيه، فكثيرة، منها:
ا- عن وهب بن كيسان، قال: قال عبد الله بن الزبير، وكان متكئا: تغنى بلال، قال: فقال له رجل: تغني؟ فاستوى جالسا، ثم قال: وأي رجل من المهاجرين لم أسمعه يتغنى النصب؟!
وفي لفظ: ما أعلم رجلا من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225)، و عبد الرازق في “المصنف"(11/5-6) ، و الفاكهي (3/27 رقم:1735) بإسناد صحيح)
قلت: وهذا يحكي زمانا شاملا بعمومه زمن الصحابة والنبي “ص” بين أظهرهم وبعده، فمثله له حكم الحديث المرفوع، وفيه أن المهاجرين لم يكونوا يرون حرجا في غنائهم الشعبي يومئذ والذي يسفونه (النصب)، شبيه بما درج عليه الناس من الأغاني الشعبية التي يرددونها في زماننا في مناسبة وغيرها.
2- وعن السائب بن يزيد، قال: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج، ونحن نؤم مكة، اعتزل عبد الرحمن الطريق، ثم قال لرباح بن المغترف: غننا يا أبا حسان، وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيه أدركهم عمر بن الخطاب، في خلافته، فقال : ما هذا؟ فقال عبدالرحمن: ما بأس بهذا، نلهو ونقصر عنا، فقال عمر، : فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب، وضرار رجل من بني محارب بن فهر.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/224) و ابن عساكر في “تاريخه” (24/400) بإسناد صحيح)
وروى عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، قال:
خرجنا مع عمر بن الخطاب في الحج الأكبر، حتى إذا كنا بالروحاء ، كلم القوم رباح بن المغترف، وكان حسن الصوت بغناء العرب ، فقالوا: أسمعنا يا رباح، وقصر عنا المسير، قال: إني أفرق من عمر، فكلم القوم عمر، فقالوا: إنا كلمنا رباحا يسمعنا وبقصر عنا المسير، فأبى إلا أن تأذن له، فقال: يا رباح، أسمعهم، وقصر عنهم المسير، فإذا أسحرت (بلغت وقت السحر) فارفع. قال: وحدا لهم من شعر ضرار بن الخطاب، فرفع عقيرته يتغنى وهم محرمون.
(أثر حسن أخرجه الخطابي في “غريب الحديث"(1/658))
قلت: فتأمل ما في هذين الأثرين من سماحة المهاجرين الأولين، وفيهم عمر بن الخطاب على ما هو معروف عنه من شدته في الحق، وهم محرمون، يغنيهم رجل منهم يحسن الغناء بشعر من شعر العرب قبل الإسلام، يؤنسهم بذلك، ويذهب عنهم وحشة الطريق، وثقل السفر.
وهذا أولى وأحسن مما تقدم عن ابن عمر في إنكار غناء القوم المحرمين، إلا أن يحمل على أنه سمع منهم غناء منكرا في لفظه، أو سمعهم يغنون في محل ينبغي فيه الاشتغال بالعبادة، لا باللهو.
3- وعن عبد الله بن عباس : أنه بينما هو يسير مع عمر، في طريق مكة في خلافته، ومعه المهاجرون والأنصار، فترنم عمر ببييت، فقال له رجل من أهل العراق ليس معه عراقي غيره: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين، فاستحيا عمر من ذلك، وضرب راحلته حتى انقطعت عن الركب .
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (5/69) بإسناد صحيح)
4- وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب، قال: سمع عمر رجلا يتغنى بفلاة من الأرض (وفى رواية: وهو يحدو بغناء الركبان)، فقال: الغناء من زاد الراكب.
(أثر حسن أخرجه البيهقي (10/68) بإسناد حسن)
5- وعن محمد بن عبد الله بن نوفل: انه رأى أسامة بن زيد في مسجد الرسول “ص” مضطجعا، رافعا إحدى رجليه على الأخرى، يتغنى النصب .
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225) و ابن عبد البر في “التمهيد” (22/197) و إسناده صحيح)
6- وعن عبد الله بن عتبة، أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى، قال عبد الله: ولا والله، ما رأيت رجلا قط ممن رأيت وأدركت، أراه قال: كان أخشى لله من عبد الله بن الأرقم.
(أثر صحيح أخرجه البيهقي (10/225) بإسناد صحيح)
قلت: وجميع هذه الآثار في الغناء الشعبي الدارج في أعراف الناس يومئذ، يخففون به ويدفعون السآمة عن أنفسهم، يغنيه أحدهم وحده، أو يسمعه منه غيره، لم يكونوا يجدون فيه حرجا.
نعم، هذا جميعه في الغناء دون آلة.
7- وتقدم ذكر الرواية عن أبي مسعود عقبة بن عمرو وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وشهودهم الغناء والضرب بالدف في عرس. وكذلك ما في رواية صحيحة عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري من اجتماعه مع نفر من الصحابة على السماع من قينة تغنيهم.
(الروايتان جزء من حديث صحيح أخرجه النسائي و الطبراني و الحاكم و غيرهم)
8- وعن عروة بن الزبير:
أن إتسانا عمل مأدبة في زمان عثمان، فدعا لها أصحاب رسول الله “ص"، وفيهم حسان بن ثابت، وقد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، قال: فجعل حسان يقول لابنه عبد الرحمن إذا أتي بطعام: أطعام يد، أم طعام يدين؟ قال: فإذا قال له: طعام يدين، لم يأكل، وهو الشواء.
قال عروة: وكان في المأدبة قينتان تغنيانهم، وجعل عبد الرحمن بن حسان يشير إليهما تغنيانهم شعر حسان، فغنتا بقوله:
انظر نهارا بباب جلق هل * تؤنس دون البلقاء من أحد؟
قال: فبكى حسان، وجعل ابنه يشير إليهما تغنيان بشعره أيضا، فيبكي.
(أثر حسن، أخرجه الزبير بن بكار في “الأخبار الموفقيات” ص:250.. و إسناده حسن)
وروى هذه القصة أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، فقال:
قلت لخارجة بن زيد : هل كان الغناء في العرسات؟ قال: قد كان ذاك، ولا يحضر بما يحضر به اليوم من السفه، دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم، فشهد المدعاة: حسان بن ثابت، وابنه عبد الرحمن، وإذا جاريتان تغنيان…
وفي رواية مفسرة بأكثر من هذا، وفيها دلائل، قال عبد الله بن ذكوان:
ذكر عند خارجة بن زيد بن ثابت الغناء يوما، فقال: والله إن كان لظاهرا كثيرا في كل مأدبة، ولكنه يؤمئذ لم يكن يحضر فيما يحضر اليوم من سوء الدعة وسوء الحال.
قال خارجة: فلقد رأيتنا في مأدبة دعينا لها في آل نبيط، وحسان بن ثابت بيني وبينه عبد الرحمن (يعني ابن حسان)، وذلك بعدما أصيب بصره، فقدم الطعام، فلم يقدم طعام إلا قال حسان: أطعام يد يا بني أم طعام يدين؟ فيقول: طعام يد، وما أشبهه، حتى أتي بالشواء، فقال ابن حسان: يا أبتاه، طعام يدين، فلم يذقه، ثم رفع الطعام، وأخرجوا قينتين، فغنتا بشعر حسان، لا أعلم إلا قال: حرتين، وقالتا فيما تقولان:
انظر نهارا بباب جلق هل * تؤنس دون البلقاء من أحد
فجعل يبكي ويقول: لقد رآني هنالك سميعا بصيرا، فلما سكتتا همد عنه البكاء، فيشير إليهما عبد الرحمن: غنيا، فإذا غنيا هاجتا عليه البكاء، قال خارجة: فعجبت لعمر الله، ماذا يعجبه أن يبكي أباه!.
قلت: وفي هذه القصة الغناء من مغنيتين مجيدتين للغناء، تغنيان الجمع من الرجال من الصحابة والتابعين في مناسبة ، لا ينكر ذلك أحد منهم.
9- وعن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، قال:
وفد عبدالله بن جعفر على معاوية بن أبي سفيان، فأنزله في داره، فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء، قال: فإذا كان ذلك فأعلميني، فاعلمته، فاطلع عليه، فإذا جارية له تغنيه، وهي تقول:
إنك والله لذو ملة (ذو ملل) * يطرفك الأدنى عن الأبعد (أي تستطرف الجديد و تنسى القديم)
وهو يقول: يا صدقكاه! قال: ثم قال: اسقيني، قالت: ما أسقيك؟ قال: ماء وعسلا، قال: فاتصرف معاوية وهو يقول: ما أرى بأسا، فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القران، قال: هكذا قومي، رهبان بالليل، ملوك بالنهار .
(أثر لا بأس به.. أخرجه المعافى بن زكريا النهرواني في “الجليس الصالح” (3/272-237) ، ومن طريقه: ابن عساكر في “تاريخه “ (27/263).
وإسناده صالح، رجاله ثقات سوى راويين فهما مستوران، وباب الآثار يغتفر
فيه ما لا يغتفر في الحديث، لأنها لا تعدو أن تعد شواهد، وروايات المستورين
صالحة للاستشهاد.)
وشأن عبدالله بن جعفر في السماع للغناء والمعازف واتخاذ ذلك مشهور ثابت، ومن ذلك غير ما تقدم مما يضم إليه أيضا مذهب عبدالله بن عمر بن الخطاب في الترخيص:
ما حدث به محمد بن سيرين: أن رجلا قدم المدينة بجوار، (فنزل على ابن عمر، وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه، فلم يهو منهن شيا، قال: اتطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا)، فأتى إلى عبد الله بن جعفر، فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن (فقال: خذي)، فأخذت (في رواية : بالدف، وفى أخرى: بالعود)، حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، فساومه، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر، فقال: يا أبا عبدالرحمن، إني غبنت بسبع مئة درهم، فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبع مئة درهم ، فإما أن تعطيها أياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيها أياه.
(أخرجها ابن حزم في “المحلى” (9/62-63))
قلت: وقد قال بعض المتأخرين: أين يكون عبدالله بن جعفر من كبار فقهاء الصحابة، كعبد الله بن عمر وفلان وفلان؟ وأقول: هذا مذهب ابن عمر بين، وقصته في حديث زمارة الراعي تشهد لهذا أيضأ.
على أن عبد الله بن جعفير وإن لم يكن في الكبار المذكورين من فقهاء الصحابة، ولكنه كان محمود السيرة كبير المكانة في وقت كان فقهاء الصحابة متوافرين، يعرفون له قدره ومنزلته، وشأنه في الغناء والموسيقى واتخاذ المغنيات مشهور مذكور، وما أنكر عليه أولئك الفقهاء شيا من ذلك، ولم يكن مثله في المحل الذي يخشاه بسببه مثل عبدالله بن عمر وأبي هريرة وعائشة أم المؤمنين وجابر بن عبدالله، وأمثالهم من الصحابة بالمدينة.
ويكفيه تزكية في الجملة مدح رسول الله “ص” ودعاؤه له، حيث ذكر عبد الله بن جعفر في قصة مجيء النبى “ص” لآل جعفر بن أبي طالب بعد مرور ثلاث ليالى على استشهاده، عن النبي “ص” قال:” ادع لي ابني أخي"، قال: فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: “ادعوا لي الحلاق"، فجيء بالحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قال:” أما محمد، فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي"، ثم أخذ بيدي فأشالها، فقال:"اللهم اخلص جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه “ قالها ثلاث مرات (حديث صحيح أخرجه أحمد.. رقم 1750).
وفي قصته مع ابن عمر، إباحة ابن عمر بيع الجارية المغنية، مع اعتبار إجادتها للغناء في القيمة، وهذا أحسن وأولى بالاتباع من قول من جاء بعد من الفقهاء، كما سيأتي في موضعه.
10- وعن أم علقمة مولاة عائشة:
أن بنات أخي عائشة “ر” خفضن ، فألمن ذلك، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت: فأرسل إلى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة “ر” في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة “ر”: أف، شيطان، أخرجوه، أخرجوه، فأخرجوه.
فهذا الخبر شاهد لشهرة الغناء في المدينة في زمان أم المؤمنين عائشة، وكان له من يتعاطاه حرفة من الرجال، على ما هو ظاهر الخبر، وهنا أتي بالمغني ليغني حيث النساء والجواري، وفي مناسبة ختان، وكل ذلك تقره عائشة، وإنما انكرت ما رأته عليه من الحال والهية.
11- وعن خالد بن ذكوان، قال: كنا بالمدينة يوم عاشوارء، والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ ، فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل علي رسول الله “ص” صبيحة عرسي، وعندي جاريتان تتغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر، وتقولان فيما تقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: “أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله “ .
(أخرجه ابن ماجة (رقم :1897) و إسناده صحيح)
وهذا فيه إظهار الصوت بالعزف والغناء في يؤم عاشوراء، وكان يوما يفرح فيه المسلمون، وليس بفطر ولا أضحى ولا عرس ، وحين ذكر ذلك الصنيع للربيع استدلت له بالإذن النبوي بمثله في عرسها، ففهمت من ذلك الإذن الفسحة في كل مناسبة دون قصر على سبب ورود القول النبوي، وهو العرس.
كما أن ظاهر القصة سماع الرجال للغناء من الجواري.
12- وسئل الحسن البصري عن الحداء؟ فقال: كان المسلمون يفعلونه .
(أخرجه ابن أبي شيبة (4/263-القسم المستدرك) و إسناده لا بأس به)
قلت: ومثل الحسن إذا قال: (كانوا) فإنما يعني أصحاب النبي “ص"، والحداء غناء.
فهذه الآثار الثابتة صريحة في ترخص خير الناس بعد رسول الله “ص” في الغناء، وهي مع ما يظن معارضته لها، جميعه متوافق غير متعارض، وذلك على التأويل المناسب لما تقدم من النصوص الصحيحة.
وأصحاب النبي “ص” مثل الأمة الأعلى في الاقتداء بعد رسولها “ص"، كانوا يأخذون من اللهو ما يدفع الملل، وما يتحقق به العون على العودة إلى الجد، لم يكونوا يرون ذلك عيبا ولا متقصة، فضلا عن كونه مخالفة أو معصية.
وقد صح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، قال: لم يكن أصحاب رسول الله “ص” متحرفين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
(أثر صحيح .. أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في “زوائد كتاب الزهد"(ص: 215) و إسناده صحيح)
وعن بكر بن عبدالله المزني، قال: كان أصحاب رسول الله “ص” يتبادحون (يترامون) بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال .
(أثر صحيح. أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” رقم 266)
قلت: أي يأخذون من اللهو، ويتسلون ويتمازحون، ومن ذلك اللهو بالسماع غناء وإنشادا واستماعا، ما دام ذلك مما لا يحول بينهم وبين القيام بحقوق الله.
فإذا كان هذا حال أصحاب النبي “ص” ، فحال من بعدهم دونهم في الصبر على الجد ومداومته في جميع الأحوال.
خلاصة مذاهب الصحابة:
المنقول عنهم في ذلك بالأسانيد الثابتة يدل على أنهم لم يكونوا يرون حرمة الغناء، وليس في عبارة من عباراتهم ما يدل على الحرمة لأصل الغناء غاية ما يستفاد من بعضها كراهة الغناء في وقت ينبغي فيه الاشتغال بما هو أولى.
وكذلك ليس في شيء من كلامهم تحريم الموسيقى، إلا ما جاء عن ابن عباس وحده على نظر في ثبوته، ولو صح فهو محمول على اتخاذها وسائل للمعاصي، لا مطلقا، تنزيلا لقوله على موافقة مقتضى الأدلة في هذا الباب.
وأن الإباحة المستفادة من سلوك الصحابة لا تنحصر في عرس أو عيد ، بل في الأحوال المختلفة.
ahmed- عدد الرسائل : 26
تاريخ التسجيل : 19/02/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى